في حديقة «هايد بارك»، وقف المتحدث على سلم يخطب عن التفرقة العنصرية في بريطانيا. ويبدو أن أحد الواقفين من البريطانيين لم يعجبه حديثه، فكان يشوش عليه كلما أراد أن يتحدث، فغضب منه ووجّه إليه الكلام قائلاً: هل تصمت قليلاً لأكمل حديثي أم أشتم الملكة؟ فما كان من الشرطي الواقف في زاوية الحديقة إلا أن نبهه قائلاً: سيدي، بإمكانك أن تقول ما تشاء، لكن أحذرك من شتم الملكة، لأن ذلك يعرضك للمساءلة القانونية، فذات الملكة مصونة.
تذكرتُ هذه الحادثة وأنا أتابع تصرف عدد من الصحف الدنماركية التي أعادت نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن نُشرت قبل سنتين في إحدى الصحف الدنماركية. ويتساءل المرء: ما الدافع لإعادة نشر هذه الرسوم بعد أن مرّ العالم بأزمة بسبب النشر الأول لها، إذ دخلت الشعوب والدول الإسلامية في مواجهة ثقافية واقتصادية مع الدنمارك، فهل المطلوب هو إعادة إنتاج هذه الأزمة مرة أخرى؟ ولماذا يصر البعض على إهانة الشعوب في أقدس مقدساتها، ألا يوجد عند الغرب شيء مقدس؟ وما معنى الحرية التي ينادي بها الغرب؟
إن كثيراً من هذه الأسئلة يعيد طرح نفسه في عصر يسعى فيه الحكماء والعقلاء لبناء علاقات من الثقة، لكن بعض السفهاء يأتي ليهدم كل ما بناه العقلاء. إن الزعم بأن ذلك تعبير عن الحرية التي يتمتع بها المجتمع الغربي قول لا يستحق المناقشة، إذ الواقع يشير إلى أن هذه الحرية لا تكون باباً مشرّعاً إلا عندما تكون موجّهة نحو المسلمين، أما إذا كان المستهدف غير المسلمين فإن أبواب الحرية تضيق، بل تُغلق أحياناً في وجهه، وإلا فأين الحرية في نقد مذبحة «الهولوكوست» اليهودية؟! لقد أصدرت معظم الدول الأوروبية قوانين تجرّم من ينكر هذه المذبحة وكأنها حقيقة كالشمس لا يمكن إنكارها، وفرضت عقوبات لمن يتجرأ على ذلك، وأصيب بعض المفكرين والأدباء الغربيين بسبب إنكارهم لهذه المذبحة، ولعل المفكر الفرنسي «روجيه جارودي» أشهر من عوقب على إنكاره «الهولوكوست». وما زالت هذه القوانين سارية لا يتجرأ أحد على المطالبة حتى بمناقشتها، فهل «الهولوكوست» أكثر قدسية عند اليهود من النبي صلى الله عليه وسلم عند المسلمين؟
بل حتى عند عقلاء العالم الذين تحدثوا عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم بكل تقدير واحترام، ولعل أبرزهم: *الفيلسوف الألماني «سانت هيلر» الذي يقول في كتابه (الشرقيون وعقائدهم): «كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما العدالة والرحمة».
*ويقول المستشرق الفرنسي «إدوارد مونته»: «عُرف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق. وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم».
*ويقول الفيلسوف الإنجليزي «برنارد شو» في كتابه (محمد): «إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بيّنة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا). إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدواً للمسيحية، لكنني اطّلعتُ على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلتُ إلى أنه لم يكن عدواً للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفّق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها».
*ويقول العلامة المستشرق «سنرستن الآسوجي» المساهم في دائرة المعارف ومحرر مجلة العالم الشرقي: «إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ».
*ويقول الفيلسوف الهندي وأستاذ الفلسفة «راما كريشنا راو»: «لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً».
*ويقول المفكر والشاعر الفرنسي «لامارتين»: «هذا هو محمد (صلى الله عليه وسلم) الفيلسوف، الخطيب، النبي، المشرع، المحارب، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة، بلا أنصاب ولا أزلام. هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة. هذا هو محمد (صلى الله عليه وسلم)، وبالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)؟
*ويقول صاحب موسوعة (قصة الحضارة) المؤلف الأميركي «ول ديورانت»: «إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا إن محمداً (صلى الله عليه وسلم) كان من أعظم عظماء التاريخ. فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله».
*ويقول العالم الفرنسي «إيتين دينيه»: «إن الشخصية التي حملها محمد (صلى الله عليه وسلم) بين برديه كانت خارقة للعادة، وكانت ذات أثر عظيم جداً حتى إنها طبعت شريعته بطابع قوي جعل لها روح الإبداع وأعطاها صفة الشيء الجديد».
*ويقول المستشرق الفرنسي «لويس سيديو» في كتابه (خلاصة تاريخ العرب): «لقد حلّ الوقت الذي توجّه فيه الأنظار إلى تاريخ تلك الأمة التي كانت مجهولة الأمر في زاوية من آسيا فارتقت إلى أعلى مقام، فطبق اسمها آفاق الدنيا مدة سبعة قرون. ومصدر هذه المعجزة هو رجل واحد، هو محمد (صلى الله عليه وسلم).. لم يعد محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه غير خاتم لأنبياء الله (عليهم السلام)، وهو قد أعلن أن عيسى بن مريم كان ذا موهبة في الإتيان بالمعجزات، مع أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) لم يعط مثل هذه الموهبة، وما أكثر ما كان يعترض محتجاً على بعض ما يعزوه إليه أشد أتباعه حماسة من الأعمال الخارقة للعادة!
إن محمداً (صلى الله عليه وسلم) أثبت خلود الروح.. وهو مبدأ من أقوم مبادئ الأخلاق. ومن مفاخر محمد (صلى الله عليه وسلم) أن أظهره قوياً أكثر مما أظهره أي مشرّع آخر».
لقد أوردت هذه الآراء لعقلاء الغرب وحكمائه وغيرهم، لأبين أن الغرب ليس هم أولئك الصحافيون الذين لا يحترمون عقائد الناس ومقدساتهم، بل في كل بلد يوجد الحكماء مثلما يوجد السفهاء، لكن يبدو أنه في عالم يغيب عنه العقلاء والحكماء، يبرز السفهاء والمسيئون، وهذا ما بدا في حملة الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، فهل سيترك عقلاء الغرب وحكماؤه قيادتهم لسفهائهم أم يتحركوا للأخذ على أيديهم؟!
ـــــــــ